بيروت مدينة العالم 3 أجزاء

د.إ128.57

50 People watching this product now!
Description

بيروت مدينة العالم

 

اسم المؤلف : ربيع جابر

“كانت الشمس تغيب. وأنفاس الخريف عطرة في الهواء. سال الشعاع البرتقالي في أزقة البلد وعطى بقشرة رقيقة كالشمع الأبواب والحيطان والنوافذ والوجوه. انعكس النور على زجاج في العمارات عند الميناء فبدت العمارات كأنها تشتعل بالنار. عبد الجواد أحمد البارودي ترك البازركان ونزل إلى “محطة الشام” وجلس يدخن أرجيلة مع ابنه ويتأمل توهج الغروب في الأفق. كان قلبه يثقل بمرور كل لحظة. وفكر في رحلة قديمة. لم يفكر تدفقت الذكريات في رأسه وجسمه. ذراعه كلّها ارتعشت ونربيش الأرجيلة كاد أن يسقط من بين أصابعه. عادت إليه ذكرى نهارٍ شتوي بعيدٍ وخيّل غليه أنه ما زال يركض تحت ذلك المطر. كان مطراً رمادياً، لم يلبث أن صار أسود، وكان ينهمر بلا توقف. سال العالم. سالت السماء وسالت الأرض وسال جسم عبد الجواد أحمد البارودي. عادت إليه الذكريات فرأى نفسه يسيل راكضاً من الشام، من الدكان الصغير حيث سال دم أخيه على الأرض.. كان يركض ولون الخوخ في عينيه. انتشرت بقعة الدم على وجه الشمس. انطفأ نور الكون وحلّ الظلام. ذراعه كلها ارتجفت وخيل إليه أن السكينة تسقط من بين أصابعه الآن فقط. كأن هذا العمر كله لم يعبر… التفت وعاد يحدق إلى الأفق… وسمعت ذلك الصوت من جديد: قعق، قعق، قعق. لكن هذه المرة لم يرفع رأسه. عبد الجواد نظر إلى الغروب القاتم ولم يرفع رأسه إلى السماء: كان تائهاً في ظلمات تتمدد وفي أعماقه. كأنه يسقط في بئر بلا قعر..”.
ربيع جابر يجتاز خياله حدود الزمان وحدود المكان منطلقاً إلى ذلك الزمن البعيد الذي سبق نشوب الحرب العالمية الأولى وقدوم جمال باشا إلى بيروت، انطلق إلى حارة البارودي، ليروي قصتها وقصة الرجل صاحب الذراع الواحد الذي بنى البيت الصغير الأول لهذه العائلة، في المكان الذي عرف لاحقاً بحارة البارودي ففي ذلك الشتاء البعيد جاء الجد الأكبر لعائلة البارودي إلى بيروت بين 1820 و1822، جاء عبد الجواد أحمد البارودي صاحب الذراع الواحدة، جاء إليها هارباً من الشام. يسحب ربيع جابر القارئ إلى عالم الأسلاف إلى آثارهم، إلى مبانيهم التي رمت عليها الحداثة ثوباً جديداً، كما يسحب ربيع جابر نفسه يسحب أيضاً القارئ معه إلى ذلك كله في محاولة لإيقاظ الزمن النائم في الحجارة لإخضاعه لعملية مساءلة عما كان في ذلك الزمن. وهل ما جرى ما هو إلى مقدمات لما هو آت. ومع شخصية عبد الجواد أحمد البارودي المرسومة بدقة ينتقل الكاتب وبخفة إلى ذلك الزمن البعيد إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، مسترسلاً من خلالها في التأريخ لبيروت تلك الفترة. ومندمجاً مع شخصيته إلى حدّ التماهي. مقنعاً القارئ بأنه كان أحد شهود أحداث تلك الرواية بكل خيالاتها. وربما ببعض واقعها.

“عمر البارودي وعبد الكريم النضولي ومحمد عزيز لا يخرجون من الهجمات إلا جنباً إلى جنب. لا يرى أحدهم إلا بين الاثنين. دوماً معاً. لا يفترقون أبداً. يسمونهم “الثلاثة الشوام”. الشوام كلهم ماتوا. لم يبق في هذا المعسكر غير هؤلاء الثلاثة. كان يوجد واحد رابع، من بيروت اسمه محمد قاسم الداعوق. قبل القُرم، في بلده البعيد، كان رفاقه ينادونه “بو محدلة”. هنا صار اسمه “محمد قاسم”. لا سطوح هنا. ولا محادل تحدل سطوح البيوت، لكن محمد قاسم خرج في غارة ولم يعد، لعله قتل. لعله فرّ. لعله يقعد الآن في معسكر آخر ويتلمس جروحه. لعلهم أخذوه أسيراً. الروس ما زالوا يأخذون أسرى. البيروتي إبراهيم بلطجي أخذ أسيراً مع واحد آخر من بلده اسمه محمد الحصّ. جمّول كبّول، وهذا أتى مع “الفرقة البيروتية”، رأس الروس يحملون الرجلين مكبلين بالحبال. ابن الحص كان يبكي ويصرخ. الآخر كان يعضّ الحبل. الروس دخلوا باب سيفاستوبول. وجمّول كبّور فرّ تحت أمواج الثلج. قال أنه غطس في الثلج وصار يسبح حتى بلغ المعسكر. لم يصدق أنه نجى. تلك الليلة تجمدت أصابع قدميه. “الشوام الثلاثة” خرجوا تحت جنح الظلام إلى أسوار سيفاستوبول. أردوا أن يأخذوا أسرى. للمبادلة. لكنهم تاهوا في الثلوج. حين تهب العواصف لا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة إلى أمام. الريح تقلع الأشجار. وحده العملاق بينهم، البيروتي الذي يحب البحر وينتظر حتى يأتي الموج الكبير ويبعد الجيف كي يغطس إلى القعر ويطلع حاملاً الأصداف، وحده العملاق أنقذهما من الموت. غطتهما العاصفة ببطانيات الثلوج، فشالهما من تحت البطانيات وحملهما. كل واحد على كتف. قطع العاصفة وتاه وأوشك أن يقطع بحر الجليد، ثم، عند الفجر، عثر على المعسكر”.
في مناخات تمزج بين الخيال والحقيقة يستمر ربيع جابر في سرد أحداث روايته بيروت مدينة العالم. والتي رسمها من خلال شخصيات عائلة عبد الجواد أحمد البارودي صاحب الذراع الواحدة وأبنائه الثلاثة الذي يكون حظ أحدهم وهو الأكبر معايشة لحروب والفتن الطائفية التي اجتاحت جبل لبنان وحلب ودمشق، ويكون حظ الابن الأصغر عمر معايشة حرب القرم وخوضها. حكاية بيروت التي هي من نسج الخيال كثيراً ما تتقاطع خطوطها مع الواقع المأساوي الذي عاشته هذه المدينة في فترة من فترات تاريخها الحزين.
بعد سنوات طويلة، وعندما إشتدت المجاعة وإنتشر التيفوس، تذكر عبد الغني البارودي زمن الكوليرا. بناته تراكضن حوله يجمعن الثياب ويحزمن الحقائب للخروج من بيروت، وهو رجع بالذاكرة إلى زمن أبعد من الكوليرا ورأى ساحة البرج قبل ” فتنة الستين “. رأى نفسه ولداً لم يبلغ العاشرة يركض خارجاً من خان أبيه، يقطع أشجار التوت، يخترق سوق الفشخة. يدفع باب الحارة المرصع بالحدائق. ويركض على ” الطريق البيضاء” إلى أمه عائشة. قالت له: ” عندما يئذن المؤذن الظهر تعال وكل قطايف”. ” حارة البارودي ” بسورها المستطيل وبوابة السنديان المرصعة بالحديد هُدمت على دفعات بين 1915 و 1919. أعمال الهدم لتوسيع دروب بيروت القديمة بدأها العثمانيون في مطلع الحرب العالمية الأولى وأنهاها الإنكليز والفرنسيون بعد إنتهاء الحرب بهزيمة الأتراك وخروجهم من بلادنا. أعمال الهدم أزالت من الوجود البيوت الأربعة التي بناها عبد الجواد أحمد البارودي. أزالت حارة القرميد التي رفعها في نهاية ” طريق عبد الجواد ” ( طريق عبد الملك ) إبنه الثاني الحاج عبد الرحيم أبو حسين البارودي. مات عبد الرحيم أبو حسين البارودي. مات عبد الرحيم البارودي ممدداً على سريره محاطاً بالعائلة الكبيرة سنة 1890. حفيداته الحائمات حول السرير نظرن إلى الجد بشعره الأبيض ووجهه المربع إمتلأت عيونهن بالبكاء. مات قبل أن يصفّر القطار الحديدي على شط بيروت منطلقاً من محطة المرفأ المجاورة. مات فورث أبناء عبد الغني وعبد الفتاح أملاكه وأعماله. عبد الفتاح الملقب بالدمياطي لن يعيش طويلاً. عبد الغني البارودي أحاطته السماء بتسع بنات جميلات ذاع صيتهن حتى جاوز الإسكندرية. صلّى أن يُرزق إبنً ذكراً يحفظ السلالة فلا تنقرض العائلة. أُعطيَ تسعة بنات ولم يُعطَ ذكراً. عبد الغني البارودي المولود “سنة حلب” (1850) سيغرق في بحر بيروت المالح قبل بلوغه السبعين، وبموته تنقرض سلالة عبد الجواد أحمد البارودي صاحب الذراع الواحدة. لكن هذه الميتة الحزينة في جوف المياه مازالت بعيدة. لم نبلغ الحرب العالمية الأولى بعد. لم نرَ الوالي التركي ينقب بمعول فضي أول حائط في بيروت القديمة. لم نرّ حارة البارودي تتساقط. ذات يوم تقع هذه البيوت.لم نبلغ ذلك اليوم بعد. نحن في زمن قديم. لم نصل إلى ” فتنة الستين ” ( حرب 1860). لم نرَ الجبل يحترق. لم نرَ نصارى دمشق ينزحون إلى بيروت. لم نرَ الهواء الأصفر. هذا خريف 1859. وهذه أم زهرة (سهيلة النابلسي البارودي) قاعدة على عتبة بيتها الملساء، تحت القنطرة البيضاء الحجر، تعجن عجيناً وتنظر إلى دجاجة حمراء تتقافز على طريق الكلس. عجينة كبيرة. لا تعجن لنفسها ولإبنتها زهرة وأولاد إبنتها زهرة فقط. تعجن للمطعم على المرفأ. ومرات تعجن للخان-خان العائلة. ” خان التوتة “، خان إبن المرحوم زوجها خان الحاج عبد الرحيم. تنزل بثقل ذراعها البض الأبيض السمين في وعاء العجين، ترفع العجين على العجين وتضغط ، والعجين يخرج من بين أصابعها ويدها تغوص في العجين. رائحة العجين تملأ وجهها الحارة اليوم. الحارة اليوم ملآنه رائحة قرفة وجوزة الطيب. رائحة السكر والرزيفيلي على النار. سعدية الحص، زوجة المرحوم عبد الجواد الرابعة، تكفلت بالمغلي. العادة أن تطبخ هي – أم زهرة – المغلي. لكن سعدية الحص – أم هند أصرت هذه المرة. هي أصرت وأم حسين المجتهدة – أتعبها العمل الطويل – قالت ” طيب” وأم زهرة كفت عن الكلام وقالت ” كما تقول أم حسين، البنت بنتها “. يجذبك الروائي منذ سطوره الأولى إلى ذاك الزمن القديم الجميل لتغرق فيه، في عالم بيروت القديمة، ماشياً في أسواقها البزركان، سوق الفشخة، سوق العطارين. متتبعاً أثر الحاج عبد الرحيم الذي يرد على تحيات تجار سوق الفشخة وهو يمر بهم يومياً في ذلك الوقت الذي يضبطون فيه مواعيد صلاتهم على مواعيد ظهوره في السوق، فيردوا أبواب حوانيهم موصين جيرانهم بالبضاعة المتروكة خارج الأبواب مسرعين وراءه إلى ” سوق العطارين “، حيث هناك بدت الزحمة شديدة. فالجنود العثمانيون يصلون هناك. هكذا يفتتح الروائي حكاية بيروت القديمة بذاك المشهد الناطق صورة وصوتاً. وتتالى الأحداث وتتابع المشاهد مقدمة للقارئ نصاً تاريخياً إجتماعياً إقتصادياً ضمن إطار روائي تُحرك عباراته خيال القارئ فيعيش تلك الحقبة التاريخية بأحداثها وبمناخاتها وبكل تفاصيلها من خلال أسلوب سردي رائع.
Reviews (0)

Reviews

There are no reviews yet.

Be the first to review “بيروت مدينة العالم 3 أجزاء”

Your email address will not be published. Required fields are marked *